فصل: تفسير الآية رقم (26)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏15 - 16‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏

يقول تعالى متوعدًا على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا‏}‏ أي‏:‏ تقاربتم منهم ودنوتم إليهم، ‏{‏فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ‏}‏ أي‏:‏ تفروا وتتركوا أصحابكم، ‏{‏وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ‏}‏ أي‏:‏ يفر بين يدي قرنه مكيدة؛ ليريه أنه ‏[‏قد‏]‏ خاف منه فيتبعه، ثم يكر عليه فيقتله، فلا بأس عليه في ذلك‏.‏ نص عليه سعيد بن جبير، والسدي‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ أن يتقدم عن أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها‏.‏

‏{‏أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ‏}‏ أي‏:‏ فر من هاهنا إلى فئة أخرى من المسلمين، يعاونهم ويعاونوه فيجوز له ذلك، حتى ‏[‏و‏]‏ لو كان في سرية ففر إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم، دخل في هذه الرخصة‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن، حدثنا زُهَيْر، حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال‏:‏ كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاص الناس حيصة -وكنت فيمن حاص -فقلنا‏:‏ كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب‏؟‏ ثم قلنا‏:‏ لو دخلنا المدينة فبتنا‏؟‏ ثم قلنا‏:‏ لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا‏؟‏ فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال‏:‏ ‏"‏من القوم‏؟‏‏"‏ فقلنا‏:‏ نحن الفرارون‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا بل أنتم العَكَّارون، أنا فئتكم، وأنا فئة المسلمين‏"‏ قال‏:‏ فأتيناه حتى قَبَّلنا يده‏.‏ وهكذا رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من طرق عن يزيد بن أبي زياد وقال الترمذي‏:‏ حسن لا نعرفه إلا من حديثه‏.‏

ورواه ابن أبي حاتم، من حديث يزيد بن أبي زياد به‏.‏ وزاد في آخره‏:‏ وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية‏:‏ ‏{‏أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ‏}‏

قال أهل العلم‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏"‏العَكَّارون‏"‏ أي‏:‏ العطافون‏.‏ وكذلك قال عمر بن الخطاب‏.‏ رضي الله عنه، في أبي عبيد لما قتل على الجسر بأرض فارس، لكثرة الجيش من ناحية المجوس، فقال عمر‏:‏ لو انحاز إليّ كنت له فئة‏.‏ هكذا رواه محمد بن سيرين، عن عمر وفي رواية أبي عثمان النهدي، عن عمر قال‏:‏ لما قتل أبو عبيد قال عمر‏:‏ يا أيها الناس، أنا فئتكم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ قال عمر‏:‏ أنا فئة كل مسلم‏.‏

وقال عبد الملك بن عُمَيْر، عن عمر‏:‏ أيها الناس، لا تغرنكم هذه الآية، فإنما كانت يوم بدر، وأنا فئة لكل مسلم‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا حسان بن عبد الله المصري، حدثنا خلاد بن سليمان الحضرمي، حدثنا نافع‏:‏ أنه سأل ابن عمر قلت‏:‏ إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا، ولا ندري من الفئة‏:‏ إمامنا أو عسكرنا‏؟‏ فقال‏:‏ إن الفئة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقلت إن الله يقول‏:‏ ‏{‏إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ‏}‏ فقال‏:‏ إنما نزلت هذه الآية في يوم بدر، لا قبلها ولا بعدها‏.‏

وقال الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ‏}‏ المتحيز‏:‏ الفار إلى النبي وأصحابه، وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه‏.‏

فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب، فإنه حرام وكبيرة من الكبائر، لما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اجتنبوا السبع الموبقات‏"‏‏.‏ قيل‏:‏ يا رسول الله، وما هن‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتَّوَلِّي يوم الزحف، وقَذْفِ المحصنات الغافلات المؤمنات‏"‏

ولهذا الحديث شواهد من وجوه أخر؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ بَاءَ‏}‏ أي‏:‏ رجع ‏{‏بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ‏}‏ أي‏:‏ مصيره ومنقلبه يوم ميعاده‏:‏ ‏{‏جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا زكريا بن عَدِيّ، حدثنا عبيد الله بن عمرو الرَّقِّي، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة، حدثنا جبلة بن سُحَيْم، عن أبي المثنى العبدي، سمعت السدوسي -يعني ابن الخصاصية، وهو بشير بن معبد -قال‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه، فاشترط علي‏:‏ ‏"‏شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن أقيم الصلاة، وأن أؤدي الزكاة، وأن أحج حَجَّة الإسلام، وأن أصوم شهر رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله‏"‏‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، أما اثنتان فوالله لا أطيقهما‏:‏ الجهاد، فإنهم زعموا أنه من ولى الدُّبُر فقد باء بغضب من الله، فأخاف إن حضرت ذلك خشعت نفسي وكرهت الموت‏.‏ والصدقة، فوالله ما لي إلا غُنَيْمَةٌ وعشر ذَوْدٍ هُنَّ رَسَل أهلي وحَمُولتهم‏.‏ فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، ثم حرك يده، ثم قال‏:‏ ‏"‏فلا جهاد ولا صدقة، فيم تدخل الجنة إذا‏؟‏ ‏"‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، أنا أبايعك‏.‏ فبايعته عليهنَّ كلهنَّ‏.‏

هذا حديث غريب من هذا الوجه ولم يخرجوه في الكتب الستة‏.‏ وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النضر، حدثنا يزيد بن ربيعة، حدثنا أبو الأشعث، عن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ثلاثة لا ينفع معهن عمل‏:‏ الشرك بالله، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف‏"‏‏.‏ وهذا أيضا حديث غريب جدا‏.‏

وقال الطبراني أيضا‏:‏ حدثنا العباس بن الفضل الأسْفَاطِيّ، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حفص بن عمر الشَّنِّي، حدثني عمرو بن مرة قال‏:‏ سمعت بلال بن يسار بن زيد -مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم -قال‏:‏ سمعت أبي حدث عن جدي قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏"‏من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه، غفر له وإن كان قد فر من الزحف‏"‏‏.‏

وهكذا رواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل، به‏.‏ وأخرجه الترمذي، عن البخاري، عن موسى بن إسماعيل به‏.‏ وقال‏:‏ غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏ قلت‏:‏ ولا يعرف لزيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم، عنه سواه‏.‏

وقد ذهب ذاهبون إلى أن الفرار إنما كان حراما على الصحابة؛ لأنه -يعني الجهاد -كان فرض عين عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ على الأنصار خاصة؛ لأنهم بايعوا على السمع والطاعة في المنشط والمكره‏.‏ وقيل‏:‏ ‏[‏إنما‏]‏ المراد بهذه الآية أهل بدر خاصة، يروى هذا عن عمر، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأبي نضرة، ونافع مولى ابن عمر، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، وغيرهم‏.‏

وحجتهم في هذا‏:‏ أنه لم تكن عصابة لها شوكة يفيئون إليها سوى عصابتهم تلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض‏"‏؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ‏}‏ قال‏:‏ ذلك يوم بدر، فأما اليوم‏:‏ فإن انحاز إلى فئة أو مصر -أحسبه قال‏:‏ فلا بأس عليه‏.‏

وقال ابن المبارك أيضا، عن ابن لَهِيعَة‏:‏ حدثني يزيد بن أبي حبيب قال‏:‏ أوجب الله تعالى لمن فر يوم بدر النار، قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ‏[‏إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا‏]‏‏}‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 155‏]‏،ثم كان يوم حُنَيْن بعد ذلك بسبع سنين، قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 25‏]‏ ‏{‏ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وفي سنن أبي داود، والنسائي، ومستدرك الحاكم، وتفسير ابن جرير، وابن مَرْدُوَيه، من حديث داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد أنه قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ‏}‏ إنما أنزلت في أهل بدر وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراما على غير أهل بدر، وإن كان سبب النزول فيهم، كما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم، من أن الفرار من الزحف من الموبقات، كما هو مذهب الجماهير، والله ‏[‏تعالى‏]‏ أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17 - 18‏]‏

‏{‏فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ‏}‏

يبين تعالى أنه خالق أفعال العباد، وأنه المحمود على جميع ما صدر عنهم من خير؛ لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم، أي‏:‏ بل هو الذي أظفركم ‏[‏بهم ونصركم‏]‏ عليهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ‏[‏فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏]‏‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 123‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 25‏]‏ يعلم -تبارك وتعالى- أن النصر ليس عن كثرة العدد، ولا بلبس اللأمة والعدد، وإنما النصر من عند الله تعالى كما قال‏:‏ ‏{‏كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 249‏]‏‏.‏

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم أيضا في شأن القبضة من التراب، التي حصب بها وجوه المشركين يوم بدر، حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته، فرماهم بها وقال‏:‏ ‏"‏شاهت الوجوه‏"‏‏.‏ ثم أمر الصحابة أن يصدقوا الحملة إثرها، ففعلوا، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين، فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله؛ ولهذا قال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَمَارَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ‏}‏ أي‏:‏ هو الذي بلغ ذلك إليهم، وكبتهم بها لا أنت‏.‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه -يعني يوم بدر -فقال‏:‏ ‏"‏يا رب إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض أبدا‏"‏‏.‏ فقال له جبريل‏:‏ ‏"‏خذ قبضة من التراب، فارم بها في وجوههم‏"‏ فأخذ قبضة من التراب، فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين‏.‏

وقال السُّدِّيّ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي، رضي الله عنه، يوم بدر‏:‏ ‏"‏أعطني حصبا من الأرض‏"‏‏.‏ فناوله حصبا عليه تراب، فرمى به في وجوه القوم، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، وأنزل الله‏:‏ ‏{‏فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى‏}‏‏.‏

وقال أبو معشر المدني، عن محمد بن قَيْس ومحمد بن كعب القُرَظِي قالا لما دنا القوم بعضهم من بعض، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب، فرمى بها في وجوه القوم، وقال‏:‏ ‏"‏شاهت الوجوه‏"‏‏.‏ فدخلت في أعينهم كلهم، وأقبل أصحاب رسول الله ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏ يقتلونهم ويأسرونهم، وكانت هزيمتهم في رَمْية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى‏}‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ في قوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى‏}‏ قال‏:‏ هذا يوم بدر، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات فرمى بحصاة ‏[‏في‏]‏ ميمنة القوم، وحصاة في ميسرة القوم، وحصاة بين أظهرهم، وقال‏:‏ ‏"‏شاهت الوجوه‏"‏، فانهزموا‏.‏

وقد روي في هذه القصة عن عروة بن الزبير، ومجاهد وعكرمة، وقتادة وغير واحد من الأئمة‏:‏ أنها نزلت في رمية النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وإن كان قد فعل ذلك يوم حنين أيضا‏.‏

وقال أبو جعفر بن جرير‏:‏ حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا يعقوب بن محمد، حدثنا عبد العزيز بن عمران، حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حَثْمَة، عن حكيم بن حزام قال‏:‏ لما كان يوم بدر، سمعنا صوتا وقع من السماء، كأنه صوت حصاة وقعت في طست، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية، فانهزمنا‏.‏ غريب من هذا الوجه‏.‏ وهاهنا قولان آخران غريبان جدا‏.‏

أحدهما‏:‏ قال ابن جرير‏:‏ حدثنى محمد بن عوف الطائي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان بن عمرو، حدثنا عبد الرحمن بن جبير؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق بخيبر، دعا بقوس، فأتى بقوس طويلة، وقال‏:‏ ‏"‏جيئوني غيرها‏"‏‏.‏ فجاؤوا بقوس كبداء، فرمى النبي صلى الله عليه وسلم الحصن، فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق، وهو في فراشه، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى‏}‏ وهذا غريب، وإسناده جيد إلى عبد الرحمن بن جبير بن نفير، ولعله اشتبه عليه، أو أنه أراد أن الآية تعم هذا كله، وإلا فسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة، وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم، والله أعلم‏.‏

والثاني‏:‏ روى ابن جرير أيضا، والحاكم في مستدركه، بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب والزهري أنهما قالا أنزلت في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أُبَي بن خلف بالحربة وهو في لأمته، فخدشه في ترقوته، فجعل يتدأدأ عن فرسه مرارا، حتى كانت وفاته ‏[‏بها‏]‏ بعد أيام، قاسى فيها العذاب الأليم، موصولا بعذاب البرزخ، المتصل بعذاب الآخرة‏.‏ وهذا القول عن هذين الإمامين غريب أيضا جدا، ولعلهما أرادا أن الآية تتناوله بعمومها، لا أنها نزلت فيه خاصة كما تقدم، والله أعلم‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عُرْوَة بن الزبير في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا‏}‏ أي‏:‏ ليُعَرّف المؤمنين من نعمته عليهم، من إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم، وقلة عددهم، ليعرفوا بذلك حقه، ويشكروا بذلك نعمته‏.‏

وهكذا فسر ذلك ابن جرير أيضا‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏وكل بلاء حسن أبلانا‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ سميع الدعاء، عليم بمن يستحق النصر والغلب‏.‏

وقوله ‏{‏ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ‏}‏ هذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر‏:‏ أنه أعلمهم تعالى بأنه مُضْعِفُ كيد الكافرين فيما يستقبل، مُصَغِّرًا أمرهم، وأنهم كل ما لهم في تبار ودمار، ولله الحمد والمنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏

يقول تعالى للكفار ‏{‏إِنْ تَسْتَفْتِحُوا‏}‏ أي‏:‏ تستنصروا وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين، فقد جاءكم ما سألتم، كما قال محمد بن إسحاق وغيره، عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صُغَيْر؛ أن أبا جهل قال يوم بدر‏:‏ اللهم أَقْطَعُنَا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة -وكان ذلك استفتاحا منه -فنزلت‏:‏ ‏{‏إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد -يعني ابن هارون -أخبرنا محمد بن إسحاق، حدثني الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة‏:‏ أن أبا جهل قال حين التقى القوم‏:‏ اللهم، أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة، فكان المستفتح‏.‏ وأخرجه النسائي في التفسير من حديث، صالح بن كيسان، عن الزهري، به وكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق الزهري، به وقال‏:‏ صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه‏.‏ وروي ‏[‏نحو‏]‏ هذا عن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، ويزيد بن رُومَان، وغير واحد‏.‏

وقال السُّدِّي‏:‏ كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بَدْر، أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا‏:‏ اللهم انصر أعلى الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين‏.‏ فقال الله‏:‏ ‏{‏إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ‏}‏ يقول‏:‏ قد نصرت ما قلتم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ هو قوله تعالى إخبارا عنهم‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ‏[‏فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏]‏‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَنْتَهُوا‏}‏ أي‏:‏ عما أنتم فيه من الكفر بالله والتكذيب لرسوله، ‏{‏فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا والآخرة‏.‏ ‏[‏وقوله‏]‏ ‏{‏وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ‏}‏ كقوله ‏{‏وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 8‏]‏معناه‏:‏ وإن عدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والضلالة، نعد لكم بمثل هذه الواقعة‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَعُودُوا‏}‏ أي‏:‏ إلى الاستفتاح ‏{‏نعد‏}‏ إلى الفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم، والنصر له، وتظفيره على أعدائه، والأول أقوى‏.‏

‏{‏وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ‏}‏ أي‏:‏ ولو جمعتم من الجموع ما عسى أن تجمعوا، فإن من كان الله معه فلا غالب له، فإن الله مع المؤمنين، وهم الحزب النبوي، والجناب المصطفوي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20 - 23‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ‏}‏

يأمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله، ويزجرهم عن مخالفته والتشبه بالكافرين به المعاندين له؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ‏}‏ أي‏:‏ تتركوا طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره، ‏{‏وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ‏}‏ أي‏:‏ بعد ما علمتم ما دعاكم إليه‏.‏

‏{‏وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ‏}‏ قيل‏:‏ المراد المشركون‏.‏ واختاره ابن جرير‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ هم المنافقون؛ فإنهم يظهرون أنهم قد سمعوا واستجابوا، وليسوا كذلك‏.‏

ثم أخبر تعالى أن هذا الضرب من بني آدم شر الخلق والخليقة، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ‏}‏ أي‏:‏ عن سماع الحق ‏{‏البكم‏}‏ عن فهمه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ‏}‏ فهؤلاء شر البرية؛ لأن كل دابة مما سواهم مطيعة لله ‏[‏عز وجل‏]‏ فيما خلقها له، وهؤلاء خلقوا للعبادة فكفروا؛ ولهذا شبههم بالأنعام في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً ‏[‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ‏]‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 171‏]‏‏.‏ وقال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 179‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بهؤلاء المذكورين نَفَرٌ من بني عبد الدار من قريش‏.‏ روي عن ابن عباس ومجاهد، واختاره ابن جرير، وقال محمد بن إسحاق‏:‏ هم المنافقون‏.‏

قلت‏:‏ ولا منافاة بين المشركين والمنافقين في هذا؛ لأن كلا منهم مسلوب الفهم الصحيح، والقصد إلى العمل الصالح‏.‏

ثم أخبر تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح، ولا قصد لهم صحيح، لو فرض أن لهم فهما، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ لأفهمهم، وتقدير الكلام‏:‏ ولكن لا خير فيهم فلم يفهمهم؛ لأنه يعلم أنه ‏{‏وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أفهمهم ‏{‏لَتَوَلَّوْا‏}‏ عن ذلك قصدا وعنادا بعد فهمهم ذلك، ‏{‏وَهُمْ مُعْرِضُونَ‏}‏ عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏

قال البخاري‏:‏ ‏{‏اسْتَجِيبُوا‏}‏ أجيبوا، ‏{‏لِمَا يُحْيِيكُمْ‏}‏ لما يصلحكم‏.‏ حدثنا إسحاق، حدثنا روح، حدثنا شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن قال‏:‏ سمعت حفص بن عاصم يحدث عن أبي سعيد بن المعلى قال‏:‏ كنت أصلي، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال‏:‏ ‏"‏ما منعك أن تأتيني‏؟‏‏"‏ ألم يقل الله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج‏"‏، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج، فذكرت له -وقال معاذ‏:‏ حدثنا شعبة، عن خُبَيْب بن عبد الرحمن، سمع حفص بن عاصم، سمع أبا سعيد رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا -وقال‏:‏ ‏"‏هي ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ السبع المثاني‏"‏

هذا لفظه بحروفه، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث بذكر طرقه في أول تفسير الفاتحة‏.‏

وقال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏لِمَا يُحْيِيكُمْ‏}‏ قال‏:‏ الحق‏.‏وقال قتادة ‏{‏لِمَا يُحْيِيكُمْ‏}‏ قال‏:‏ هو هذا القرآن، فيه النجاة والتقاة والحياة‏.‏

وقال السُّدِّيّ‏:‏ ‏{‏لِمَا يُحْيِيكُمْ‏}‏ ففي الإسلام إحياؤهم بعد موتهم بالكفر‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عُرْوَةَ بن الزبير‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ‏}‏ أي‏:‏ للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل، وقواكم بها بعد الضعف، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان‏.‏

رواه الحاكم في مستدركه موقوفا، وقال‏:‏ صحيح ولم يخرجاه ورواه ابن مَرْدُوَيه من وجه آخر مرفوعا ولا يصح لضعف إسناده، والموقوف أصح‏.‏ وكذا قال مجاهد، وسعيد، وعكرمة، والضحاك، وأبو صالح، وعطية، ومُقَاتِل بن حيَّان، والسُّدِّيّ‏.‏

وفي رواية عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ‏}‏ حتى تركه لا يعقل‏.‏

وقال السدي‏:‏ يحول بين الإنسان وقلبه، فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه‏.‏

وقال قتادة هو كقوله‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وقد وردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يناسب هذه الآية‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول‏:‏ ‏"‏يا مُقَلِّب القلوب، ثبت قلبي على دينك‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فقلنا‏:‏ يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا‏؟‏ قال نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها‏"‏‏.‏

وهكذا رواه الترمذي في ‏"‏كتاب القدر‏"‏ من جامعه، عن هناد بن السري، عن أبي معاوية محمد بن حازم الضرير، عن الأعمش -واسمه سليمان بن مهران -عن أبي سفيان -واسمه طلحة بن نافع -عن أنس ثم قال‏:‏ حسن‏.‏ وهكذا روي عن غير واحد عن الأعمش، رواه بعضهم عنه، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي سفيان عن أنس أصح‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال عبد بن حميد في مسنده‏:‏ حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن بلال، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو‏:‏ ‏"‏يا مُقَلِّب القلوب ثَبِّت قلبي على دينك‏"‏‏.‏

هذا حديث جيد الإسناد إلا أن فيه انقطاعا وهو -مع ذلك -على شرط أهل السنن ولم يخرجوه

حديث آخر‏:‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا الوليد بن مسلم قال‏:‏ سمعت ابن جابر يقول‏:‏ حدثني بسر بن عبد الله الحضرمي‏:‏ أنه سمع أبا إدريس الخولاني يقول‏:‏ سمعت النواس بن سَمْعَان الكلابي، رضي الله عنه، يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه‏"‏‏.‏ وكان يقول‏:‏ ‏"‏يا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه‏"‏‏.‏

وهكذا رواه النسائي وابن ماجه، من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر فذكر مثله‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يونس، حدثنا حماد بن زيد، عن المعلى بن زياد، عن الحسن؛ أن عائشة قالت‏:‏ دعوات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بها‏:‏ ‏"‏يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك‏"‏‏.‏ قالت‏:‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، إنك تكثر تدعو بهذا الدعاء‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏إن قلب الآدمي بين إصبعين من أصابع الله، فإذا شاء أزاغه وإذا شاء أقامه‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هاشم، حدثنا عبد الحميد، حدثني شهر، سمعت أم سلمة تحدث‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه يقول‏:‏ ‏"‏اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك‏"‏‏.‏ قالت‏:‏ فقلت يا رسول الله، أو إن القلوب لتقلب ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم، ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا أن قلبه بين إصبعين من أصابع الله، عز وجل، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه‏.‏ فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب‏"‏‏.‏ قالت‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بلى، قولي‏:‏ اللهم رب النبي محمد، اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني‏"‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حيوة، أخبرني أبو هانئ، أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبَلي أنه سمع عبد الله بن عمرو؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يُصَرِّف كيف شاء‏.‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اللهم مُصَرِّف القلوب، صَرِّف قلوبنا إلى طاعتك‏"‏‏.‏

انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري، فرواه مع النسائي من حديث حَيْوَة بن شُرَيْح المصري، به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏

يحذر تعالى عباده المؤمنين ‏{‏فِتْنَةً‏}‏ أي‏:‏ اختبارًا ومحنة، يعم بها المسيء وغيره، لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب، بل يعمهما، حيث لم تدفع وترفع‏.‏ كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا شَدَّاد بن سعيد، حدثنا غَيْلان بن جرير، عن مُطَرِّف قال‏:‏ قلنا للزبير‏:‏ يا أبا عبد الله، ما جاء بكم‏؟‏ ضيعتم الخليفة الذي قتل، ثم جئتم تطلبون بدمه‏؟‏ فقال الزبير، رضي الله عنه‏:‏ إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً‏}‏ لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت‏.‏ وقد رواه البزار من حديث مطرف، عن الزبير، وقال‏:‏ لا نعرف مطرفا روى عن الزبير غير هذا الحديث‏.‏

وقد روى النسائي من حديث جرير بن حازم، عن الحسن، عن الزبير نحو هذا‏.‏

وروى ابن جرير‏:‏ حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا مبارك بن فَضَالة، عن الحسن قال‏:‏ قال الزبير‏:‏ لقد خوفنا بها، يعني قوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً‏}‏ ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ظننا أنا خصصنا بها خاصة‏.‏ وكذا رواه حميد، عن الحسن، عن الزبير، رضي الله عنه‏.‏

وقال داود بن أبي هِنْد، عن الحسن في هذه الآية قال‏:‏ نزلت في علي، وعثمان وطلحة والزبير، رضي الله عنهم‏.‏

وقال سفيان الثوري عن الصَّلت بن دينار، عن عقبة بن صُهْبان، سمعت الزبير يقول‏:‏ لقد قرأت هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها فإن نحن المعنيون بها‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ وقد روي من غير وجه، عن الزبير بن العوام‏.‏

وقال السُّدِّيّ‏:‏ نزلت في أهل بدر خاصة، فأصابتهم يوم الجمل، فاقتتلوا‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً‏}‏ يعني‏:‏ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة

وقال في رواية له، عن ابن عباس، في تفسير هذه الآية‏:‏ أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين ظهرانيهم إليهم فيعمهم الله بالعذاب‏.‏

وهذا تفسير حسن جدًّا؛ ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً‏}‏ هي أيضا لكم، وكذا قال الضحاك، ويزيد بن أبي حبيب، وغير واحد‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، إن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 15‏]‏ فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم -وإن كان الخطاب معهم -هو الصحيح، ويدل على ذلك الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن، ولذلك كتاب مستقل يوضح فيه إن شاء الله تعالى، كما فعله الأئمة وأفردوه بالتصنيف ومن أخص ما يذكر هاهنا ما رواه الإمام أحمد حيث قال‏:‏ حدثنا أحمد بن الحجاج، أخبرنا عبد الله -يعني ابن المبارك- أنبأنا سيف بن أبي سليمان، سمعت عَدِيّ بن عَدِيّ الكندي يقول‏:‏ حدثني مولى لنا أنه سمع جدي -يعني عَدِيّ بن عميرة -يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن الله عز وجل، لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظَهْرَانَيْهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عَذَّب الله الخاصة والعامة‏"‏ فيه رجل مبهم، ولم يخرجوه في الكتب الستة، ولا واحد منهم، والله أعلم‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سليمان الهاشمي، حدثنا إسماعيل -يعني ابن جعفر -أخبرني عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهل، عن حُذَيفة بن اليمان؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عِقابا من عنده، ثم لتَدعُنّه فلا يستجيب لكم‏"‏

ورواه عن أبي سعيد، عن إسماعيل بن جعفر، وقال‏:‏ ‏"‏أو ليبعثن الله عليكم قوما ثم تدعونه فلا يستجيب لكم ‏"‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله بن نمير، قال حدثنا رَزِين بن حبيب الجُهَني، حدثني أبو الرُّقاد قال‏:‏ خرجت مع مولاي، فدفعت إلى حذيفة وهو يقول‏:‏ إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير منافقا، وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات؛ لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولَتَحَاضُّن على الخير، أو لَيَسْحَتَنَّكم الله جميعا بعذاب، أو ليؤمرَنّ عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد أيضا‏:‏ حدثني يحيى بن سعيد، عن زكريا، حدثنا عامر، قال‏:‏ سمعت النعمان بن بشير، رضي الله عنه، يخطب يقول -وأومأ بإصبعيه إلى أذنيه -يقول‏:‏ مثل القائم على حدود الله والواقع فيها -أو المُداهن فيها -كمثل قوم ركبوا سفينة، فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها، وأصاب بعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مَرُّوا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا‏:‏ لو خَرَقْنا في نصيبنا خَرْقا، فاستقينا منه، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وأمرهم هَلَكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا جميعا‏.‏ انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم، فرواه في ‏"‏الشركة‏"‏ و‏"‏الشهادات‏"‏، والترمذي في الفتن من غير وجه، عن سليمان بن مهران الأعمش، عن عامر بن شَرَاحيل الشعبي، به‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسين، حدثنا خَلَف بن خليفة، عن لَيْث، عن عَلْقَمَة بن مَرْثد، عن المعرور بن سُوَيْد، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إذا ظهرت المعاصي في أمتي، عَمَّهم الله بعذاب من عنده‏"‏‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، أما فيهم أناس صالحون‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بلى‏"‏، قالت‏:‏ فكيف يصنع أولئك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان‏"‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حَجَّاج بن محمد، أخبرنا شريك، عن أبي إسحاق، عن المنذر بن جرير، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما من قوم يعملون بالمعاصي، وفيهم رجل أعزّ منهم وأمنع لا يغيرون، إلا عمهم الله بعقاب -أو‏:‏ أصابهم العقاب‏"‏‏.‏ ورواه أبو داود، عن مُسَدَّد، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، به‏.‏

وقال أحمد أيضًا‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة سمعت أبا إسحاق يحدث، عن عُبَيد الله بن جرير، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما من قوم يُعْمَل فيهم بالمعاصي، هم أعَزّ وأكثر ممن يعمله، لم يغيروه، إلا عمهم الله بعقاب‏"‏

ثم رواه أيضًا عن وَكِيع، عن إسرائيل -وعن عبد الرزاق، عن مَعْمَر -وعن أسود، عن شريك ويونس -كلهم عن أبي إسحاق السَّبِيعي، به‏.‏ وأخرجه ابن ماجه، عن علي بن محمد، عن وكيع، به‏.‏

‏[‏حديث آخر‏]‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان، حدثنا جامع بن أبي راشد، عن مُنْذِر، عن حسن بن محمد، عن امرأته، عن عائشة تبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا ظهر السوء في الأرض، أنزل الله بأهل الأرض بأسه‏"‏‏.‏ قالت‏:‏ وفيهم أهل طاعة الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم، ثم يصيرون إلى رحمة الله‏"‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏

ينبه تعالى عباده المؤمنين على نعمه عليهم وإحسانه إليهم، حيث كانوا قليلين فكثَّرهم، ومستضعفين خائفين فقوَّاهم ونصرهم، وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات، واستشكرهم فأطاعوه، وامتثلوا جميع ما أمرهم‏.‏ وهذا كان حال المؤمنين حال مقامهم بمكة قليلين مستخفين مضطرين يخافون أن يتخطفهم الناس من سائر بلاد الله، من مشرك ومجوسي ورومي، كلهم أعداء لهم لقلتهم وعدم قوتهم، فلم يزل ذلك دأبهم حتى أذن الله لهم في الهجرة إلى المدينة، فآواهم إليها، وقَيَّض لهم أهلها، آووا ونصروا يوم بدر وغيره وآسَوا بأموالهم، وبذلوا مُهَجهم في طاعة الله وطاعة رسوله‏.‏

قال قتادة بن دِعَامة السَّدوسي، رحمه الله، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ‏}‏ قال‏:‏ كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذُلا وأشقاه عَيْشًا، وأجوعه بطونًا، وأعراه جلودا، وأبينه ضلالا مكعومين على رأس حجر، بين الأسدين فارس والروم، ولا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيًّا، ومن مات منهم رُدِّيَ في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قَبِيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلا منهم، حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس‏.‏ وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم مُنْعِم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله ‏[‏تعالى‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27 - 28‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏

قال عبد الله بن أبي قتادة والزهري‏:‏ أنزلت في أبي لُبابة بن عبد المنذر، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قُرَيْظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشاروه في ذلك، فأشار عليهم بذلك -وأشار بيده إلى حلقه -أي‏:‏ إنه الذبح، ثم فطن أبو لبابة، ورأى أنه قد خان الله ورسوله، فحلف لا يذوق ذواقا حتى يموت أو يتوب الله عليه، وانطلق إلى مسجد المدينة، فربط نفسه في سارية منه، فمكث كذلك تسعة أيام، حتى كان يخر مغشيا عليه من الجهد، حتى أنزل الله توبته على رسوله‏.‏ فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه، وأرادوا أن يحلوه من السارية، فحلف لا يحله منها إلا رسول الله صلى الله عليه ‏[‏وسلم‏]‏ بيده، فحله، فقال‏:‏ يا رسول الله، إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة، فقال يجزيك الثلث أن تصدق به‏"‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا يونس بن الحارث الطائفي، حدثنا محمد بن عبيد الله أبو عون الثقفي، عن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ نزلت هذه الآية في قتل عثمان، رضي الله عنه‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ‏}‏ الآية‏.‏

وقال ابن جرير أيضا‏:‏ حدثنا القاسم بن بِشْر بن معروف، حدثنا شَبَابة بن سَوَّار، حدثنا محمد بن المحرم قال‏:‏ لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال‏:‏ حدثني جابر بن عبد الله؛ أن أبا سفيان خرج من مكة، فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن أبا سفيان في كذا وكذا‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ ‏"‏إن أبا سفيان في موضع كذا وكذا، فاخرجوا إليه واكتموا‏"‏ فكتب رجل من المنافقين إليه‏:‏ إن محمدًا يريدكم، فخذوا حذركم، فأنزل الله ‏[‏عز وجل‏]‏ ‏{‏لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ‏}‏ الآية‏.‏ هذا حديث غريب جدًّا، وفي سنده وسياقه نظر‏.‏

وفي الصحيحين قصة ‏"‏حاطب بن أبي بَلْتَعَة‏"‏ أنه كتب إلى قريش يعلمهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عام الفتح، فأطلع الله رسوله على ذلك، فبعث في إثر الكتاب فاسترجعه، واستحضر حاطبا فأقر بما صنع، فقام عمر بن الخطاب فقال‏:‏ يا رسول الله، ألا أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏دعه، فإنه قد شهد بدرا، ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال‏:‏ ‏"‏اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ والصحيح أن الآية عامة، وإن صح أنها وردت على سبب خاص، فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء‏.‏ والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار اللازمة والمتعدية‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ‏}‏ الأمانة الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد -يعني الفريضة يقول‏:‏ لا تخونوا‏:‏ لا تنقضوها‏.‏

وقال في رواية‏:‏ ‏{‏لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ‏}‏ يقول‏:‏ بترك سنته وارتكاب معصيته‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير في هذه الآية، أي‏:‏ لا تظهروا لله من الحق ما يرضى به منكم، ثم تخالفوه في السر إلى غيره، فإن ذلك هلاك لأماناتكم، وخيانة لأنفسكم‏.‏ وقال السُّدِّيّ‏:‏ إذا خانوا الله والرسول، فقد خانوا أماناتهم‏.‏

وقال أيضا‏:‏ كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين‏.‏ وقال عبد الرحمن بن زيد ‏[‏بن أسلم‏]‏ نهاكم أن تخونوا الله والرسول، كما صنع المنافقون‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ أي‏:‏ اختبار وامتحان منه لكم؛ إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه فيها، أو تشتغلون بها عنه، وتعتاضون بها منه‏؟‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 15‏]‏،وقال‏:‏ ‏{‏وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 9‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏التغابن‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ ثوابه وعطاؤه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد، فإنه قد يوجد منهم عدو، وأكثرهم لا يغني عنك شيئا، والله، سبحانه، هو المتصرف المالك للدنيا والآخرة، ولديه الثواب الجزيل يوم القيامة‏.‏

وفي الأثر يقول ‏[‏الله‏]‏ تعالى‏:‏ ‏"‏ابن آدم، اطلبني تَجدني، فإن وَجَدْتَنِي وجَدْتَ كل شيء، وإن فُتُّكَ فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء‏"‏‏.‏

وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏[‏أنه قال‏]‏ ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان‏:‏ من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه‏"‏

بل حب رسوله مقدم على الأولاد والأموال والنفوس، كما ثبت في الصحيح أنه، عليه السلام، قال‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله والناس أجمعين‏"‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}‏

قال ابن عباس، والسُّدِّيّ، ومُجاهِد، وعِكْرِمة، والضحاك، وقَتَادة، ومُقَاتِل بن حَيَّان‏:‏ ‏{‏فُرْقَانًا‏}‏ مخرجا‏.‏ زاد مجاهد‏:‏ في الدنيا والآخرة‏.‏ وفي رواية عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فُرْقَانًا‏}‏ نجاة‏.‏ وفي رواية عنه‏:‏ نصرا‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ ‏{‏فُرْقَانًا‏}‏ أي‏:‏ فصلا بين الحق والباطل‏.‏

وهذا التفسير من ابن إسحاق أعم مما تقدم وقد يستلزم ذلك كله؛ فإن من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره، وفق لمعرفة الحق من الباطل، فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا، وسعادته يوم القيامة، وتكفير ذنوبه -وهو محوها -وغفرها‏:‏ سترها عن الناس -سببًا لنيل ثواب الله الجزيل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 28‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏

قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة‏:‏ ‏{‏لِيُثْبِتُوكَ‏}‏ ‏[‏أي‏]‏‏:‏ ليقيدوك‏.‏

وقال عطاء، وابن زيد‏:‏ ليحبسوك‏.‏

وقال السُّدِّيّ‏:‏ ‏"‏الإثبات‏"‏‏.‏ هو الحبس والوثاق‏.‏

وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء، وهو مجمع الأقوال وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء‏.‏

وقال سُنَيْد، عن حجاج، عن ابن جُرَيْج، قال عطاء‏:‏ سمعت عُبَيْد بن عُمَيْر يقول‏:‏ لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، قال له عمه أبو طالب‏:‏ هل تدري ما ائتمروا بك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني‏"‏، فقال‏:‏ من أخبرك بهذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ربي‏"‏، قال‏:‏ نعم الرب ربك، استوص به خيرا فقال‏:‏ ‏"‏أنا أستوصي به‏؟‏ ‏!‏ بل هو يستوصي بي‏"‏

وقال أبو جعفر بن جرير‏:‏ حدثني محمد بن إسماعيل البصري، المعروف بالوساوسي، أخبرنا عبد الحميد بن أبي رَوَّاد عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن المطلب بن أبي وَدَاعةِ، أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما يأتمر بك قومك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ من أخبرك بهذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ربي‏"‏، قال‏:‏ نعم الرب ربك، فاستوص به خيرا، ‏"‏قال‏:‏ أنا أستوصي به‏؟‏‏!‏ بل هو يستوصي بي‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ‏}‏ الآية‏.‏ وذِكر أبي طالب في هذا، غريب جدا، بل منكر؛ لأن هذه الآية مدنية، ثم إن هذه القصة واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل، إنما كان ليلة الهجرة سواء، وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين لما تمكنوا منه واجترءوا عليه بعد موت عمه أبي طالب، الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه‏.‏ والدليل على صحة ما قلنا‏:‏ ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يَسَار صاحب ‏"‏المغازي‏"‏ عن عبد الله بن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال‏:‏ وحدثني الكلبي، عن باذان مولى أم هانئ، عن ابن عباس؛ أن نفرًا من قريش من أشراف كل قبيلة، اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا‏:‏ من أنت‏؟‏ قال‏:‏ شيخ من نجد، سمعت أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي‏.‏ قالوا‏:‏ أجل، ادخل فدخل معهم فقال‏:‏ انظروا في شأن هذا الرجل، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره‏.‏ قال‏:‏ فقال قائل منهم‏:‏ احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به ريب المنون، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء‏:‏ زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم، قال‏:‏ فصرخ عدو الله الشيخ النجدي فقال‏:‏ والله ما هذا لكم برأي، والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم، فيمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم‏.‏ قال‏:‏ فانظروا في غير هذا‏.‏

قال‏:‏ فقال قائل منهم‏:‏ أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع، إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم، وكان أمره في غيركم، فقال الشيخ النجدي‏:‏ والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة ‏[‏قوله‏]‏ وطلاوة لسانه، وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه‏؟‏ والله لئن فعلتم، ثم استعرض العرب، ليجتمعن عليكم ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم‏.‏ قالوا‏:‏ صدق والله، فانظروا بابا غير هذا‏.‏

قال‏:‏ فقال أبو جهل، لعنه الله‏:‏ والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم تصرمونه بعد، ما أرى غيره‏.‏ قالوا‏:‏ وما هو‏؟‏ قال‏:‏ نأخذ من كل قبيلة غلاما شابا وسيطا نهدًا، ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل ‏[‏كلها‏]‏ فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها‏.‏ فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل، واسترحنا وقطعنا عنا أذاه‏.‏

قال‏:‏ فقال الشيخ النجدي‏:‏ هذا والله الرأي‏.‏ القول ما قال الفتى لا رأي غيره، قال‏:‏ فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره ألا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم‏.‏ فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة، وأذن الله له عند ذلك بالخروج، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة ‏"‏الأنفال‏"‏ يذكر نعمه عليه وبلاءه عنده‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏ وأنزل ‏[‏الله‏]‏ في قولهم‏:‏ ‏"‏تربصوا به ريب المنون، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء‏"‏، ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏ وكان ذلك اليوم يسمى ‏"‏يوم الزحمة‏"‏ للذي اجتمعوا عليه من الرأي‏.‏

وعن السُّدِّيّ نحو هذا السياق، وأنزل الله في إرادتهم إخراجه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 76‏]‏‏.‏

وكذا روى العَوْفي، عن ابن عباس‏.‏ وروي عن مجاهد، وعُرْوة بن الزبير، وموسى بن عُقْبَة، وقتادة، ومِقْسَم، وغير واحد، نحو ذلك‏.‏

وقال يونس بن بُكَيْر، عن ابن إسحاق‏:‏ فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أمر الله، حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به، وأرادوا به ما أرادوا، أتاه جبريل، عليه السلام، فأمره ألا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فأمره أن يبيت على فراشه وأن يتسجى ببُرد له أخضر، ففعل‏.‏ ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم وهم على بابه، وخَرَج معه بحفنة من تراب، فجعل يذرها على رؤوسهم، وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ‏:‏ ‏{‏يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 1-9‏]‏‏.‏ وقال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ روي عن عكرمة ما يؤكد هذا وقد روى ‏[‏أبو حاتم‏]‏ ابن حِبَّان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، من حديث عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال‏:‏ دخلت فاطمةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال‏:‏ ‏"‏ما يبكيك يا بُنَيَّة‏؟‏‏"‏ قالت‏:‏ يا أبت، ‏[‏و‏]‏ ما لي لا أبكي، وهؤلاء الملأ من قريش في الحجْر يتعاقدون باللات والعُزَّى ومناة الثالثة الأخرى، لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك، وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏يا بنية، ائتني بوَضُوء‏"‏‏.‏ فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج إلى المسجد‏.‏ فلما رأوه قالوا‏:‏ إنما هو ذا فطأطؤوا رؤوسهم، وسقطت أذقانهم بين أيديهم، فلم يرفعوا أبصارهم‏.‏ فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها، وقال‏:‏ ‏"‏شاهت الوجوه‏"‏‏.‏ فما أصاب رجلا منهم حَصَاة من حصياته إلا قُتل يوم بدر كافرا‏.‏

ثم قال الحاكم‏:‏ صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ولا أعرف له علة‏.‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، أخبرني عثمان الجَزَري، عن مِقْسَم مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ‏}‏ قال‏:‏ تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم‏:‏ إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق -يريدون النبي صلى الله عليه وسلم -وقال بعضهم‏:‏ بل اقتلوه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ بل أخرجوه‏.‏ فأطلع الله نبيه على ذلك، فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليًّا رَدَّ الله تعالى مكرهم، فقالوا‏:‏ أين صاحبك هذا‏؟‏ قال‏:‏ لا أدري‏.‏ فاقتصا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمرّوا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا‏:‏ لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال‏.‏ وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عُرْوَة بن الزبير في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ فمكرت بهم بكيدي المتين، حتى خلصتك منهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31 - 33‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏

يخبر تعالى عن كفر قريش وعُتُوِّهم وتمرُّدهم وعنادهم، ودعواهم الباطل عند سماع آياته حين تتلى عليهم أنهم يقولون‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا‏}‏ وهذا منهم قول لا فعل، وإلا فقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله فلا يجدون إلى ذلك سبيلا‏.‏ وإنما هذا قول منهم يَغُرّون به أنفسهم ومن اتبعهم على باطلهم‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن القائل لذلك هو النضر بن الحارث -لعنه الله -كما قد نص على ذلك سعيد بن جُبَيْر، والسُّدِّيّ، وابن جُرَيج وغيرهم؛ فإنه -لعنه الله -كان قد ذهب إلى بلاد فارس، وتعلم من أخبار ملوكهم رُسْتم واسفنديار، ولما قدم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله، وهو يتلو على الناس القرآن، فكان إذا قام صلى الله عليه وسلم من مجلس، جلس فيه النضر فيحدثهم من أخبار أولئك، ثم يقول‏:‏ بالله أيهما أحسن قصصا‏؟‏ أنا أو محمد‏؟‏ ولهذا لما أمكن الله تعالى منه يوم بدر ووقع في الأسارى، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب رقبته صبرا بين يديه، ففُعل ذلك، ولله الحمد‏.‏ وكان الذي أسره المقداد بنالأسود، رضي الله عنه، كما قال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن بشَّار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعْبَة، عن أبي بِشْر، عن سعيد بن جُبَيْر قال‏:‏ قَتَل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبرا عُقْبَةَ بن أبي مُعَيْط وطُعَيْمة بن عَدِي، والنضر بن الحارث‏.‏ وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله، قال المقداد‏:‏ يا رسول الله، أسيري‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنه كان يقول في كتاب الله، عز وجل، ما يقول‏"‏‏.‏ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، فقال المقداد‏:‏ يا رسول الله، أسيري‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اللهم اغن المقداد من فضلك‏"‏‏.‏ فقال المقداد‏:‏ هذا الذي أردت‏.‏ قال‏:‏ وفيه أنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ‏}‏ وكذا رواه هُشَيْم، عن أبي بشر جعفر بن أبي وَحْشِيّة، عن سعيد بن جُبَيْر؛ أنه قال‏:‏ ‏"‏المطعم بن عدي‏"‏ ‏"‏بدل طعيمة‏"‏ وهو غلط؛ لأن المطعم بن عدي لم يكن حيا يوم بدر؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ‏:‏ ‏"‏لو كان المطعم حيا، ثم سألني في هؤلاء النَّتْنَى لوهبتهم له‏"‏ -يعني‏:‏ الأسارى -لأنه كان قد أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم رجع من الطائف‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ‏}‏ وهو جمع أسطورة، أي‏:‏ كتبهم اقتبسها، فهو يتعلم منها ويتلوها على الناس‏.‏ وهذا هو الكذب البحت، كما أخبر الله عنهم في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 5، 6‏]‏‏.‏أي‏:‏ لمن تاب إليه وأناب؛ فإنه يتقبل منه ويصفح عنه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ هذا من كثرة جهلهم وعُتُوِّهم وعنادهم وشدة تكذيبهم، وهذا مما عِيبُوا به، وكان الأولى لهم أن يقولوا‏:‏ ‏"‏اللهم، إن كان هذا هو الحق من عندك، فاهدنا له، ووفقنا لاتباعه‏"‏‏.‏ ولكن استفتحوا على أنفسهم، واستعجلوا العذاب، وتقديم العقوبة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏53‏]‏، ‏{‏وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏16‏]‏، ‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 1-3‏]‏،وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة، كما قال قوم شعيب له‏:‏ ‏{‏فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 187‏]‏،وقال هؤلاء‏:‏ ‏{‏اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ قال شُعْبَة، عن عبد الحميد، صاحب الزيّادي، عن أنس بن مالك قال‏:‏ هو أبو جهل بن هشام قال‏:‏ ‏{‏اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّمِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ فنزلت ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ الآية‏.‏ رواه البخاري عن أحمد ومحمد بن النضر، كلاهما عن عُبَيد الله بن مُعَاذ، عن أبيه، عن شعبة، به‏.‏

وأحمد هذا هو‏:‏ أحمد بن النضر بن عبد الوهاب‏.‏ قاله الحاكم أبو أحمد، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري، والله أعلم‏.‏

وقال الأعمش، عن رجل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ قال‏:‏ هو النضر بن الحارث بن كلدة، قال‏:‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعْ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِع‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 1-2‏]‏ وكذا قال مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والسدي‏:‏ إنه النضر بن الحارث -زاد عطاء‏:‏ فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِالْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 16‏]‏ وقال ‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏ وقال ‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 1، 2‏]‏، قال عطاء‏:‏ ولقد أنزل فيه بضع عشرة آية من كتاب الله، عز وجل‏.‏

وقال ابن مُرْدُوَيْه‏:‏ حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثنا الحسن بن أحمد بن الليث، حدثنا أبو غسان حدثنا أبو تُمَيْلة، حدثنا الحسين، عن ابن بُرَيْدة، عن أبيه قال‏:‏ رأيت عمرو بن العاص واقفا يوم أُحُد على فرس، وهو يقول‏:‏ اللهم، إن كان ما يقول محمد حقا، فاخسف بي وبفرسي‏"‏‏.‏

وقال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ‏}‏ الآية، قال‏:‏ قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها فعاد الله بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة وجهلتها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود، حدثنا عِكْرِمة بن عمار، عن أبي زُمَيْل سِمَاك الحنفي، عن ابن عباس قال‏:‏ كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون‏:‏ لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك فيقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قَدْ قد‏"‏‏!‏ ويقولون‏:‏ لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك‏.‏ ويقولون‏:‏ غفرانك، غفرانك، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كان فيهم أمانان‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم، والاستغفار، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار وقال ابن جرير‏:‏ حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا أبو مَعْشَر، عن يزيد بن رُومَان ومحمد بن قيس قالا قالت قريش بعضها لبعض‏:‏ محمد أكرمه الله من بيننا‏:‏ ‏{‏اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ فلما أمسوا ندموا على ما قالوا، فقالوا‏:‏ غفرانك اللهم‏!‏ فأنزل الله، عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ ‏[‏لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ‏]‏ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الإنفال‏:‏34‏]‏‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ‏}‏ يقول‏:‏ ما كان الله ليعذب قوما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ يقول‏:‏ وفيهم من قد سبق له من الله الدخولُ في الإيمان، وهو الاستغفار -يستغفرون، يعني‏:‏ يصلون - يعني بهذا أهل مكة‏.‏

وروي عن مُجاهد، وعِكْرِمَة، وعطية العَوْفي، وسعيد بن جُبَيْر، والسُّدِّيّ نحو ذلك‏.‏

وقال الضحاك وأبو مالك‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ المؤمنين الذين كانوا بمكة‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عبد الغفار بن داود، حدثنا النضر بن عَرَبي ‏[‏قال‏]‏ قال ابن عباس‏:‏ إن الله جعل في هذه الأمة أمانين لا يزالون معصومين مجارين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم‏:‏ فأمان قبضه الله إليه، وأمان بقي فيكم، قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ قال أبو صالح عبد الغفار‏:‏ حدثني بعض أصحابنا، أن النضر بن عربي حدثه هذا الحديث، عن مجاهد، عن ابن عباس‏.‏

وروى ابن مَرْدُوَيه وابن جرير، عن أبي موسى الأشعري نحوًا من هذا وكذا رُوي عن قتادة وأبي العلاء النحوي المقرئ‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا ابن نُمَيْر، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عباد بن يوسف، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أنزل الله عليَّ أمانين لأمتي‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ فإذا مضيت، تركتُ فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة‏"‏ ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، من حديث عبد الله بن وهب‏:‏ أخبرني عمرو بن الحارث، عن دَرَاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال‏:‏ ‏"‏إن الشيطان قال‏:‏ وعزتك يا رب، لا أبرح أغْوِي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم‏.‏ فقال الرب‏:‏ وعزتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني‏"‏‏.‏ ثم قال الحاكم‏:‏ صحيح الإسناد ولم يخرجاه

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا رِشْدِين -هو ابن سعد -حدثني معاوية بن سعد التُّجيبي، عمن حدثه، عن فَضَالة بن عُبَيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله، عز وجل‏"‏